تحليل خاص | رقصة "السامبا" الأخيرة

المشكلة الأخرى التي عانى منها المنتخب البرازيلي هي الضَّغط العكسي على المنتخب الكرواتي عند افتقاد الكرة، فأصبح المنتخب البرازيلي يدافع بدون ضغط عكسي وبدون ضغط عالي على حامل الكرة، وخط الوسط

تحليل خاص | رقصة

(Gettyimages)

خرج منتخب "السّامبا" من دور الثمانية مونديال قطر بعد كان المرشح الأول لنيل البطولة، ليترك نصف النِّهائي للوكا مودريتش ورفاقه، في مباراة نجمها الأوَّل مدرِّب كرواتيا، زلاتكو داليتش، الذي قدَّم واحدة من المباريات الخياليَّة أمام البرازيل، أمّا تيتي، فكان "تيتي تيتي، مثل ما رحتي مثل ما جيتي". حيث أدار المباراة بشكل سيّئ تمامًا من جميع النَّواحي؛ تهيئة نفسيَّة للمباراة، تهيئة ذهنيَّة للّاعبين، تغييرات، ركلات ترجيح، كل ما فعله تيتي في هذه المباراة كان محطّ علامات استفهام، وجميعها عوامل أدَّت إلى توديع منتخب السّامبا البطولة، في المقابل، داليتش أدار كل منحنيات المباراة بالشَّكل الصَّحيح، فرأينا المنتخب الكرواتي في نصف نهائي كأس العالم للنسخة الثانية على التَّوالي.

خلال مشاهدتنا للمباراة كان هناك اختلاط للمشاعر لكلّ مشاهد محايد، فمن جهة نرى منتخب كرواتيا، وصيف بطل العالم، يؤدّي مباراة تكتيكيَّة عالميَّة، ومن جهة أخرى رأينا منتخب البرازيل، الاسم الكبير بأفضل لاعبي العالم، لكن في النِّهاية لا يصحّ إلّا الصَّحيح، واستحقَّ المنتخب الكرواتي التَّأهُّل.

منذ ربع نهائي كأس العالم 2018 في روسيا لم يقابل منتخبًا أوروبيًا كبيرًا، فقد واجه التّشيك قبل هذه البطولة، ومنتخبا سويسرا وصربيا في دور المجموعات، حتّى جاءت هذه المباراة ليقابل المنتخب الكرواتي، منتخب أوروبي تكتيكي منضبط ووعي لاعبيه في الملعب عال جدًا.

تشكيلة المنتخبين

بدأ المنتخب البرازيلي اللِّقاء بخطَّة 4-2-3-1 الاعتياديَّة؛ أليسون في حراسة المرمى؛ ميليتاو، ماركينوس، تياغو سيلفا ودانيلو في خطّ الدِّفاع؛ باكيتا وكاسيميرو في المحور؛ ورافينيا، نيمار وفينيسيوس خلف المهاجم ريتشارليسون في المقدِّمة.

بدأ المنتخب الكرواتي اللِّقاء بخطَّة 4-3-3؛ ليفاكوفيتش في حراسة المرمى؛ يورانوفيتش، جفارديول، لوفرين وسوسا في خطّ الدِّفاع؛ في الوسط تواجد كلّ من مودريتش، بروزوفيتش وكوفازيتش؛ بينما في المقدِّمة تواجد كلّ من بازليتش، كرامريتش وبيرسيتش.

تحليل اللِّقاء

في الشَّوط الأوَّل انبهرنا من المرونة التَّكتيكيَّة الكرواتيَّة في مقابلة البرازيل وحرمانها من قوَّتها في السَّيطرة على الكرة وخلق الفرص واللَّعب بأريحيَّة، حيث واجه البرازيل بضغط عال في بداية المباراة، وكان مودريتش أوَّل من يهاجم ويضغط عاليًا على حامل الكرة أو على باني اللَّعب في المنتخب البرازيلي (ماركينوس وتياغو سيلفا).

وعندما تبدأ عمليَّة بناء الهجمة يتراجع مودريتش ويراقب كاسيميرو مراقبة لصيقة، وقد تفوَّق مودريتش في هذه المراقبة، فيما راقب يورانوفيتش وبازليتش كل من فينيسيوس ونيمار، في الجبهة اليسرى الأقوى بالنِّسبة للمنتخب البرازيلي، ليتحوَّل الرَّسم التَّكتيكي للمنتخب الكرواتي إلى 4-5-1 في الحالة الدِّفاعيَّة.

كان المنتخب الكرواتي يتحرَّك بمسارات بدون كرة، هذه التَّحرُّكات أقفلت مسارات التَّمرير في عمق الملعب.

حتّى الدَّقيقة 20 كان يضطرّ نيمار إلى الرُّجوع لأبعد المناطق عن دفاع الخصم لاستلام الكرات بسبب ضعف الأظهرة هجوميًا، وكثيرًا ما كان يخسر الكرة بمراوغاته السَّيِّئة أو تمريراته غير الدَّقيقة.

في الدَّقيقة 20 من عمر المباراة بدأ تغيير طفيف على الطريقة التي يهاجم بها البرازيليون، حيث بدأ لاعبو الهجوم بالتَّحرُّكات بدون كرة، الأمر الذي حرَّر لاعبي البرازيل فأصبح المنتخب يهاجم بخطَّة 3-2-1-4 بدخول باكيتا بين الخطوط، وفتح الأجنحة عن طريق فينيسيوس ورافينيا، وبدأ دانيلو باستلام الكرات من الدِّفاع ومحاولة بناء اللَّعب من الخلف.

عندما بدأ دانيلو ببناء اللَّعب من الخلف، اضطرَّ بازليتش إلى ترك الجهة اليسرى للمنتخب البرازيلي والضَّغط على دانيلو، الأمر الذي حرَّر نيمار في الجهة اليسرى وأصيح المنتخب البرازيلي يشكِّل بعض الخطر على المنتخب الكرواتي.

المشكلة الأخرى التي عانى منها المنتخب البرازيلي هي الضَّغط العكسي على المنتخب الكرواتي عند افتقاد الكرة، فأصبح المنتخب البرازيلي يدافع بدون ضغط عكسي وبدون ضغط عالي على حامل الكرة، وخط الوسط ليس بإمكانه أن يحرِّر المنتخب البرازيلي من الهجوم الكرواتي، باستثناء كاسيميرو الذي كان مراقبًا من مودريتش، بالإضافة إلى أنَّ المنتخب الكرواتي كان لديه أفضليَّة في الحالة الهجوميَّة على صعيد خط الوسط المكوَّن من لاعبين من طراز عالي جدًا ومتنوِّعي الخصائص، سواءً دفاعيًا، حمل الكرة وبدء الهجمة والمساندة الهجوميَّة، وكذلك دعم الأظهرة وتحديدًا يورانوفيتش في الهجوم، ففي بعض الأحيان كان يضطر فينيسيوس أن يشغل مركز الظَّهير الأيسر للتَّغطية على يورانوفيتش وبازليتش، بالإضافة إلى بيرسيتش الذي كان محطَّة هجوميَّة للمنتخب الكرواتي ومتنفَّس هجومي على المرمى البرازيلي.

شوط أوَّل كانت فيه البرازيل متفاجئة، تحت الصَّدمة من التَّكتيك الكرواتي، تيتي لم يستطع إيجاد الحلول لفكّ هذا التَّكتيك والفكر النّاجح؛ نتحدَّث عن صراعات ثنائيَّة، تحرُّكات بدون كرة، ومهارات فرديَّة، كلّها أمور تفوَّق بها الكرواتيون في هذا الشَّوط.

في الشَّوط الثّاني بدأنا نرى تأثير تكتيكي لتيتي، فرأينا في بداية هذا الشَّوط البرازيل تحاول الاختراق أكثر، كانت لديها جرأة أكثر أمام المرمى، فوصل اللاعبون إلى الفرص، لكن الحارس الكرواتي كان لهم بالمرصاد.

مشكلة أخرى عانى منها المنتخب البرازيلي في هذا الشَّوط وفي المباراة بشكل عام وهي عدم التَّسديد من خارج منطقة الجزاء.

هذه الفرص لم تدم طويلًا مع تبديلات تيتي حيث أخرج فينيسيوس وأدخل رودريغو؛ تبديل غير مفهوم إطلاقًا، حيث أنَّ رودريغو لا يستطيع اللَّعب على الرِّواق الأسير، ولا يمكنه سدّ مكان فينيسيوس، فكان بإمكانه إدخال رودريغو مكان رافينيا على الرِّواق الأيمن، وبذلك ينشِّط الجهة اليمنى بالإضافة للجهة اليسرى النشطة من خلال نيمار وفينيسيوس، وما زاد الطّين بلَّة هو إخراج ريتشارليسون هداف المنتخب في البطولة، وإدخال بيدرو الذي لم يدخل إلى أجواء البطولة أساسًا، فبهذه التَّبديلات أضعف تيتي المنظومة الهجوميَّة البرازيليَّة كثيرًا.

من الجهة الأخرى ردَّ المدرِّب الكرواتي على هذه التَّبديلات بإدخال فلاسيتش مكان بازليتش لينشِّط الجهة اليسرى التي نشَّطها رودريغو.

في الشوطين الإضافيين بدا المنتخب الكرواتي منهار بدنيًا، فأصبح يدافع بخط دفاع منخفض، لكن ذلك لم يسعفه وسجَّل المنتخب البرازيلي هدف التَّقدُّم عن طريق نيمار؛ الذي جاء من عمق الملعب بعد أن سلَّم واستلم الكرة مرَّتين، راوغ الحارس وسجَّلها.

بهذا الهدف تلقّى المنتخب الكرواتي الصَّفعة، لكن داليتش لم يقف مكتوف الأيدي، حيث أقحم لوفروماير مكان كوفازيتش لتنشيط خط الوسط في بداية الشَّوط الإضافي الثّاني، ثمَّ أدخل بوديمير المهاجم مكان سوسا الظَّهير، وأورسيتش الجناح مكان لاعب الوسط بروزوفيتش، من خلال هذه التَّبديلات كان واضح أنَّ المدرِّب الكرواتي لديه خطَّة (ب) يستخدمها في حال تأخُّره بالنَّتيجة، فأصبح يلعب بخطَّة 4-2-4 الهجوميَّة، تزامنًا مع التَّبديلات الخاطئة من المدرِّب البرازيلي الذي أدخل أليكس ساندرو وفريد مكان باكيتا وميليتاو. تبديلات المنتخب البرازيلي كان معناها على الورق أنَّه سيقفل المساحات وسيلعب على الهجمة المرتدَّة، لكن في الحقيقة هذه التَّبديلات خلقت فجوة في الدِّفاع خلال التَّحوُّل الهجومي المعاكس للمنتخب الكرواتي، استثمروها وسجَّلوا التَّعادل لينتهيا الشوطين الإضافيين بالتَّعادل الإيجابي بهدف لكل فريق.

ومع الانتقال إلى ركلات الترجيح، كانت الرَّكلة الأولى للمنتخب البرازيلي سددها رودريغو، صاحب الـ21 عامًا، في أوَّل بطولة دوليَّة، في مباراة معقَّدة، بالمقابل نيمار ينتظر إلى أن تأتي الرَّكلة الأخيرة ليسدِّدها، بالمقابل مودريتش، النَّجم الأوَّل للمنتخب الكرواتي سجِّل الركلة الثّالثة، وهنا يكمن الفرق بين لاعب يدفع فريقه إلى الأمام، وبين لاعب ينتظر أن يسجِّل زملاؤه ضرباتهم ثمَّ يسدِّد هو الأخيرة باحثًا عن مجد شخصي متخليًا تمامًا عن المسؤوليَّة تجاه منتخبه ورفاقه في المنتخب. غير ممكن إدارة ركلات الترجيح بهذه الصّورة، ليهدر رودريغو الضَّربة الأولى، ويهدر تياغو سيلفا الضَّربة الأخيرة ويتأهَّل المنتخب الكرواتي إلى الدَّور القادم بجدارة واستحقاق.

نقاط تحليليَّة وتكتيكيَّة

* كرواتيا صنعت المُستَحيل وانتصرت على البرازيل المُصنَّفة الأولى عالميًّا والمرشَّحة الأَبرز للفوز بالبطولة بركلات التَّرجيح.

* بدأ المنتخب الكرواتي اللِّقاء بنظام 4-3-3 هجوميًا، تتبلور دفاعيًا إلى نظام 4-5-1؛ بروزوفيتش وكوفازيتش في حالة مداورة عند البناء وقطع جميع السُّبل على نيمار بالإضافة إلى تغطية بازليتش، وبالفعل تمكَّنوا من تقليص خطورة نيمار، وهذا ما حصل في أغلب أوقات المُباراة من خلال مراقبة لصيقة على البرازيلي.

* عند البناء كانت هناك سلاسة في الوصول إلى نصف الملعب بسبب إِبداع ومهارة خط وسط كرواتيا بالاحتفاظ بالكرة تحت الضَّغط وإيصال الكرة إلى الثُّلث الأخير من الملعب.

* المنتخب الكرواتي بصورةٍ عامَّة كسب معركة خط الوسط، وذلك بسبب عدم وُجود لاعِب خط وسط يَقوم ببناءِ اللَّعِب وربط الخطوط بامتياز في المنتخب البرازيلي.

* تبيَّن في هذه المباراة أنَّ المدرب تيتي فَقير تكتيكِيًا وليس لديه حلول جذريَّة، فكانت الأَسماء هي من تقوم بحمل العاتق معظم الأحيان.

رجل المباراة

بدون نقاش، السّاحر في خطّ الوسط، المدرِّب على أرضيَّة الملعب، محرِّك منتخب كرواتيا، الذي لا يكل ولا يملّ من الرَّكض، الأمير لوكا مودريتش، العامود الفقري للمنتخب الكرواتي.

التعليقات